يذكر المخرج الروسي الكبير أندري تاركوفسكي في كتابه ” النحت في الزمن ” عن أحد مخرجيه المفضلين ” لويس بونويل ” أنه حينما تم عرض فيلمه ” كلب أندلسي ” لأول مرة عام 1929 كان بونويل مضطرا للاختباء عن البرجوازيين والمحافظين والحانقين , وكان يضع مسدسا في جيبه الخلفي كلما غادر منزل ” !! – فيما ذكر بونويل نفسه انه كان قد وضع في جيوبه بعض الحجارة وهو مختبيء حتى يقذف بها الجمهور فيما لو فشل الفيلم وتهجم عليه الناس !! بينما كان تاركوفسكي يذكر هذا الأمر في سياق حديثه عن الفن والسينما بعد أن قال أن ” الفن يبدو خطيرا لأنه مقلق ومشوش ” ثم أعقب ذكره لحادثة بونويل بقوله ” والذي اعتاد لتوه على السينما بوصفها ترفيها وتسلية وهبتها له الحضارة ارتعد في رعب عند رؤيته الصور والرموز التي تلفح الروح والتي يصعب حقا تحملها أو إدراك معناها “
وفيما يعتبر فيلم ” كلب أندلسي ” الفيلم الأول للمخرج الكبير والسيريالي لويس بونويل وهو في سن التاسعة والعشرين إلا أن الفيلم أيضا يكاد يكون رائد الحركة السيريالية في السينما واحتل عبر التاريخ مكانة عالية جدا وهو ضمن قائمة ” 1001 فيلم يجب أن تشاهدها قبل أن تموت ” حسب الناقد السينمائي الشهير ستيفن شنايدر . كما اختارت مجلةPremiere الفيلم ضمن ( 100 فيلم صدمت العالم ) في عددها أكتوبر 1998 في قائمة مرتبة للأفلام ” الجريئة من أي وقت مضى ” كما وان الناقد الراحل الشهير روجر إيبرت وضع الفيلم ضمن قائمته ” أفلام عظيمة ” فيما كان من الطريف أن العالم في السبعينات شاهد الفيلم – وبالاخص جمهور موسيقى الروك – في جولات ديفيد بوي حيث كان يتم عرض الفيلم قبل كل عرض غنائي !!
وهنا يمكن ان نتسائل ماقصة هذا الفيلم الذي لايتجاوز 16 دقيقة حتى يحضى بمثل هذه الشهرة والاعتراف حيث يذكر المؤرخون ان عرض الفيلم الأول شهده مجموعة من المشاهير أمثال بابلو بيكاسو ، لو كوربوزييه ، جان كوكتو ، كريستيان بيرارد وجورج أوريك ، بالإضافة إلى مجموعة أندريه بريتون زعيم الحركة السيريالية وقتها والذي رحب ببونويل وصديقه الرسام الشهير سلفادور دالي الذي شارك بونويل كتابة الفيلم رسميا في صفوف السيرياليين !!
الحقيقة انه ليس هناك أي قصة سردية بالشكل التقليدي المعروف بل إن الفيلم عبارة عن سلسلة من المشاهد الرمزية والصادمة والمزعجة ايضا بأسلوبها الغامض ولم يكن مصدر هذا الفيلم سوى الأحلام التي شاهدها بونويل وصديقه سلفادور دالي في منامهما حيث يذكر بونويل في مذكراته قائلا ” ( ولد هذا الفيلم من تلاقي حلمين . دعاني دالي لقضاء عدة ايام في بيته ولدى وصولي الى ” فيغويراس ” رويت له حلما كنت رايته قبل فترة قصيرة : غيمة تقطع القمر وموس حلاقة تشق عينا !! وقال لي دالي بدوره انه في الليلة الأخيرة رأى في الحلم يدا ملأى بالنمل !! وأضاف : إذا انطلقنا من هذا هل نستطيع أن نصنع فيلما ” )
والحقيقة ان كلا الحلمين تم تصويرهما في الفيلم لكن مايبدو مثيرا للانتباه هو تعبير بونويل وهو يتحدث عن الفيلم وكتابة السيناريو حينما يقول : ( كتبنا السيناريو في أقل من اسبوع متبعين قاعدة بسيطة جدا باتفاق مشترك : عدم قبول أي فكرة أو صورة يمكن ان يكون هناك أي مجال لتفسيرها بشكل عقلاني او سيكيلوجي أو ثقافي , وفتح كل الابواب على اللاعقلانية دون أن نتطلب أكثر من أن تؤثر الصور فينا ومن غير أن نعمل على معرفة السبب )
والحقيقة الأهم أن الفيلم كان قد تم استقباله بشكل رائع واثار موجة من التصفيق والاعجاب مما اغضب بونويل بعض الشيء حينما رحب الجمهور بالفيلم باعتباره شيئا جديدا دون ان تستفزهم هذه الطريقة في العرض والتي لايمكن تجاهل كونها تقدم إهانة للبرجوازية التي ظل بونويل في لاحق أفلامه واشهرها يكرر هذه الإهانة كما ظل ايضا يعتمد الأحلام والكوابيس كمصدر إلهام لكتابة افلامه .
ومن جانب آخر وعلى عكس ماكان يخطط له بونيول وصديقه الرسام سلفادرو دالي فإن الكثير جدا من التفسيرات التحليلية والعقلانية والنظريات الفرويدية والنفسية قد طالت الفيلم وتناولته منذ عرضه عام 1929 وحتى هذا اليوم مما يجعل مشاهدته أمرا محتما كما قال ذلك من قبل ستيفن شنايدر وغيره من مؤرخي السينما ونقادها ومن حسن الحظ أن الفيلم متوفر حاليا على موقع اليوتيوب دون الحاجة للترجمة