في فيلم المخرج الايطالي برناردو بيرتلوشي THE DREAMERS يحتدم النقاش بين شابين صديقين حول المقارنة مابين أشهر نجوم السينما الصامتة شارلي شابلن وباستر كيتون ليقرر الشاب الامريكي أن باستر كيتون منتج افلام حقيقي وأكثر اضحاكا من أي شخص آخر وسط معارضة صديقه الفرنسي الذي يميل لتفضيل شارلي شابلن .
والحقيقة أن هذه المقارنة هي انعكاس تقليدي لواقع كثير من الاحاديث السينمائية بمتابعيها ونقادها منذ زمن النجمين شابلن وكيتون بالرغم من كون شابلن الاشهر والاكثر ايقونية لكن فترة ظهورهما بنفس الوقت مابين شابلن في بريطانيا وباستر كيتون في أمريكا وتشابه اسلوبيهما ومحورية الشخصية لدى كل منهما واستحواذهما على الانتباه الاكبر فترة السينما الصامتة هو مايجعلهما في مجال للمقارنة وبشكل دائم .
وفيما يبدو الحديث متكررا عن شابلن فإن الحديث عن كيتون لن يكون أقل أهمية ومتعة بالنظر لحياته وانتاجه السينمائي الاستثنائي .
حيث عمل باستر كيتون (الملقب بالوجه الحجري العظيم ) بين 1920 و 1929 كمخرج و ممثل و كاتب و منتج بدون انقطاع ليقدم لنا مجموعة هائلة من التحف الصامتة ما بين (12) فيلما طويلا و ( 19 ) قصيرا هي بالطبع ضمن أهم الأعمال من ذلك العقد العشريني . بدأ كيتون العمل مع استوديو يونايتد آرتست في 1917 كممثل جانبي مع “فاتي أربكل” و سرعان ما أصبح مساعد المخرج و المسؤول عن قسم الكوميديا في أفلامه. ثم بعد النجاح الذي قدمه كيتون مع أربكل , استحق الأستوديو الخاص به “كوميديا باستر كيتون” و التي بدأ العمل بها بشكل مستقل بإخراج أفلام قصيرة مدتها عشرون دقيقة من أهمها “One Week” و “Cops” و “The Scarecrow” و “Neighbors”. و في عام 1923 و بعد أن أخرج ( 19 ) فلم قصير , تحول كيتون إلى إخراج الأفلام الطويلة و أولها كان “Three Ages” و الذي يحكي ثلاثة قصص من ثلاثة أزمنة مختلفة ( العصر الحجري , الروماني , الحديث ) عن الحب الذي لم تختلف طبيعته مع مرور الأزمنة .لكن السبب الرئيسي حقيقة لتقسيم الفلم على ثلاثة أجزاء هو الخوف من الفشل التجاري , باعتبار أن نجاح كيتون كان قد اشتهر من خلال الأفلام القصيرة فقط و لم يسبق له إنتاج عمل طويل فجاء هذا الاحتياط فيما لو فشل الفلم فأنه يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء و عرضها كثلاثة أفلام قصيرة منفصلة . و في نفس السنة , يقدم كيتون تحفته الأولى “Our Hospitality” يلعب فيها دور الشخص الساذج البسيط الذي يجد نفسه في بيت عائلة كانت قد أقسمت على قتله لإنتقام عائلي قديم لكن كرمهم الجنوبي لا يسمح لهم بقتل ضيفهم وحينما يلاحظ كيتون هذا الشيء فأنه يسعى للاستمتاع بضيافتهم رافضا المغادرة الخطرة وسط مجموعة من أطرف الكوميديا الجسدية الساخرة و أشهرها مثل مشهد الشلال الذي تدلى فيه كيتون من جذع شجرة لينقذ الفتاة التي يحبها قبل أن تقع في الشلال فيما يذكر صناع الفيلم أن حبل الأمان قد انقطع في تلك اللحظة مما كاد أن يودي بحياته . وهذا مايقودنا الى التميز الفريد الذي لايجاري احد فيه باستر كيتون حيث كمية المشاهد الخطرة التي يؤديها كيتون بنفسه دائما مهما اورثته من اصابات وكسور ( مثل تعرض رقبته لكسر في مشهد تعلقه بمضخة ماء لتعبئة صهاريج القطارات في فيلم شيرلوك جونيور ) ويقدمها ضمن قوالب كوميدية مضحكة معتمدا على دقة الاخراج والتوقيت والاستعداد مما لاتجده عند ممثل ومخرج آخر وحتى هذا اليوم .( ربما لايعرف الكثير ان المشهد الصامت الشهير الذي يسقط فيه جانب من حائط البيت الخشبي الكبير ليتزامن مع وقوف رجل في نقطة تجعله يتجنب سقوطه تحت هذا الحائط بعبوره عبر احدى نوافذه … هذا الرجل كان هو باستر كيتون كما في فيلم ستيمبوت بيل جونيور )
في عام 1924 أخرج كيتون إثنين من أهم الأعمال التي قدمها في تاريخه , الأول هو “Sherlock Jr.” و الذي غالبا ما يعد ضمن أفضل أفلام كيتون و يحتوي على مجموعة من أذكى الكوميديا التي قدمت على مر التاريخ و أكثرها طليعية . ففي مشهد من أشهر ما أخرج كيتون , حيث يعمل كمشغل أفلام في صالة عرض لكن النوم يغلبه فنرى كيف تخرج روحه من جسده و تتداخل مشاكل حياته الخاصة مع الفلم المعروض أمام المشاهدين في أحد أروع مشاهد الأحلام في تاريخ السينما . فلمه الثاني في نفس السنة هو “The Navigator” و الذي صرف فيه 25000$ لشراء السفينة التي تدور على متنها أحداث الفلم وهذا ما أغضب أصحاب الأستوديو كثيرا بسبب هذه التكلفة المدة الباهضة وقتها , لكن النجاح الذي حققه الفيلم دفهم من جديد لصرف نفس المبلغ لشراء حقوق مسرحية من الدرجة الثالثة و التي حولها كيتون إلى تحفته الشهيرة المميزة “Seven Chances” والذي تدور قصته حول شاب يشارف على الافلاس في عمله لكن ماينقذه بشكل مفاجيء هو وصية من جده المتوفى بتوريثه سبعة ملايين دولار بشرط أن يكون متزوجا قبل الساعة السابعة في يوم ميلاده السابع و العشرين وهو ما يصادف أن يكون نفس اليوم التي تدور أحداث القصة فيه وبما أنه كان عازبا فإن عليه تدبير أمر هذا الزواج خلال الساعات المتبقية من الفيلم بداية من عرض الزواج على حبيبته التي كان مترددا بخوف وخجل في السنوات السابقة لتقديم هذا العرض الا ان الامور ستنحى منحى آخر بطريقة دراميتيكة مضحكة للآخر.
ومنها إلى رائعة أخرى من روائع افلامه وتحفته الأشهر باختيار أغلب النقاد ومحبيه وهي فيلم “The General” في عام 1926 حيث تدور أحداث الفيلم إبان الحرب الأهلية الأمريكية عام 1862 . والحقيقة أن الفيلم لاقى فشلا نقديا و تجاريا حين عرضه , ووصفه نقاد ذاك الزمن بأنه ممل و مخيب للآمال كما لم يلق إقبالا جماهيريا حيث حقق أرباحا ضئيلة مقارنة بميزانيته العالية ( يذكر أن الفلم يحتوي على أغلى مشهد تم تصويره في تلك الفترة عندما دمر كيتون قطارا في أحد مشاهد الفلم ) . كل هذا أدى إلى خسارة كيتون لإستقلاليته كصانع أفلام و أجبر لاحقا على توقيع عقد مقيد مع MGM مما أدى إلى تدني مستوى أفلامه اللاحقة نسبيا . لكن ما يجدر ذكره الآن هو أن الفلم يعتبر حاليا أحد أفضل الأعمال في تاريخ السينما و كثيرا ما يذكر ضمن أشهر القوائم العالمية و قوائم النقاد الخاصة , يقول المخرج الأمريكي الشهير أورسون ويلز صاحب تحفة ” المواطن كين ” عن الفلم أنه ” أعظم كوميديا صنعت في التاريخ و أعظم فلم عن الحرب الأهلية صنع في التاريخ , و ربما أعظم فلم صنع في التاريخ ” , كما يعده الناقد الأمريكي الراحل روجر إيبرت ضمن أفضل عشرة أفلام في التاريخ , كما أنه حضي بالتصويت ضمن استطلاعات مجلة Sight & Sound لأفضل الأفلام في تاريخ السينما ثلاث مرات ( في المركز التاسع عشر عام 1962 و في المركز الثامن عام 1972 و في المركز الرابع و الثلاثين عام 2012 ) .
و في أواخر الحقبة الصامتة نجد أيضا تحفتين لهذا الفنان العظيم الاستثنائي , الأولى “Steamboat Bill, Jr.” و يقوم كيتون بلعب دور الشاب المدلل الذي عاش مع أمه حتى أنهى الجامعة ثم رحل للقاء أباه الذي يعمل كقائد باخرة و الذي كان يتوقع أن يكون ابنه ضخما و قويا ليساعده في عمله و عندها يفاجئ بابنه الصغير الهزيل المدلل , الفلم يحتوي على أحد أروع المشاهد ضمن أعمال كيتون ( مشهد الإعصار الذي هب على المدينة و أثار فوضى عارمة و كيتون في خضم هذه الأزمة يحاول أن يسيطر على الموقف في سلسة من المواقف الطريفة و الأداءات الجسدية المضحكة كعادته). كان هذا الفلم هو آخر أفلام كيتون مع يونايتد آرتست قبل أن يوقع مع MGM و يخرج آخر أفلامه بشكل مستقل تماما وهو “The Cameraman” و الذي أراه احد أكثر أفلام كيتون عمقا و ذكاء باعتبار ان كيتون لطالما اعتمد القصة البسيطة القائمة على المفارقة المضحكة وسلسلة الاحداث العفوية المتتالية.
ثم لنصل بعد ذلك الى المرحلة الأسوأ في حياة كيتون والتي يصطف فيها ضمن طابور النجوم المبدعين فترة السينما الصامتة مشكلين بذلك مسيرة الخبوت والاخفاق كضحايا لدخول الصوت في السينما وصناعة الأفلام والتحول لانتاج الأفلام الناطقة
حيث أراد كيتون أن يواكب هذا التحول في فلمه القادم “Spite Marriage” لكن الأستوديو لم يسمح له بذلك و أجبره على أن يكون الفلم صامتا مما أدى إلى الفشل التجاري و منع كيتون من إخراج أي فلم في المستقبل بحرية مما أضر بعمله و سرعان ما طرد من MGM ليعيش باطلا بقية حياته حتى توفي في عام 1966 كأحد شواهد سلطة الاستبداد التجاري الرأسمالي تجاه روح الفن وكينونة الفنان واستقلاله!!
في التحفة الشهيرة Sunset Blvd. لبيلي وايلدر عام 1950 يشارك باستر كيتون بشكل بسيط بشخصيته الحقيقية كصديق ضيف عند نجمة أفلام صامتة تنحسر عنها الأضواء كما هي قصة الفيلم … يعلق أحدهم على مجموعة الممثلين الضيوف من أمثال كيتون في منزل النجمة : ” الآخرون حول المنضدة كانوا أصدقائها من الممثلين .بعض الأوجه الخافتة التي قد تتذكرها من أيام الأفلام الصامتة.. كنت أظن أنهم كتماثيل من الشمع ” !!