حينما نطقت السينما … جاء دور الحوار !!

بدأ الفيلم صامتا… لاشيء أمام المشاهد سوى الصورة و موسيقى مصاحبة كانت تعزف أثناء العرض . وعلى الرغم من ان المشاهد حينها كان يعيش فترة الانبهار أمام هذه الصور المتحركة والتي بدورها كانت مرحلة مهمة أنتج من خلالها بعض اشهر الأفلام التي وضعت لغة السينما ومهدت لصورة السينما الحديثة الا ان الشعور بأن الصورة لم تكتمل بعد كان موجودا لدى المشاهدين أيضا .
كان على الممثل حينها أن يتكفل بإيصال التعبير المطلوب في ظل انعدام الحوار الذي عوضت عنه بعض الأفلام بعبارات حوارية مقتضبة جدا مكتوبة تظهر على الشاشة أثناء العرض.
وعلى الرغم من ان أحد صناع السينما قد قال يوما حول اقتراح وضع الحوار على الأفلام : ” ومن الذي يحب سماع الممثلين وهم يتحدثون ” !! الا ان الامر لم يمض بهذا الشكل .
ففي عام 1927 تقدم شركة ” وارنر بروذر”  خدمة عظيمة للفن السينمائي حينما أدخلت الصوت مع الصورة في الفلم لأول مرة في السينما معلنة نهاية مرحلة الفلم الصامت من خلال الفلم الموسيقى ” مغني الجاز “. لقد كانت هذه الفترة البداية الفعلية لمرحلة الصوت في السينما والتمهيدية لمرحلة الحوار السينمائي الذي سيستغل هذا التقدم التقني لاعطاء الحوار دورا أكبر في  السرد وبناء الشخصيات  وسيفتح لاحقا مجالا رحبا في عالم السينما حيث ستتشكل مدارس متعددة في كتابة الحوار وسيكون هناك مخرجون يولون عناية أكبر بالحوارات حتى تكاد تكون إحدى سماتهم الإبداعية ” وودي ألن مثلا ” . وسيبرز مجموعة من كتاب السيناريو الذين سيواجهون المشاهد بما يملكونه من مقدرة ومخيلة لابداع الحوار السينمائي. كما ان الممثل ذاته سيتكفل بمهمة ايصال الحوار بكل تأثيراته الى المشاهدين وسيخوض امتحانا جديدا يؤكد من خلاله مدى موهبته .فحتى نغمة الحوار ذاتها جرى عليها التغير من الأداء الكلاسيكي الخطابي والمسرحي الى الأداء الاكثر واقعية في نغمة الحوار والمتسم غالبا بالتلقائية والحيوية.تماشيا مع انعطافة الأداء إجمالا والتي ساهم في تكريسها الهنغاري لي ستراسبيرغ امتدادا لما فعله الروسي المسرحي مسبقا ستانسيلافسكي .
لقد كانت هذه القفزة التقنية في السينما اعلانا آخر لتمازج الصوت والصورة الا انه من جانب آخر يعتقد رالف ستيفنسون ان الحركة الحرة للكاميرا والتي كانت في أواخر أيام الأفلام الصامتة قد فقدت ولم تستطع حداثة الحوار التعويض عن وجود اللقطات الثابتة والطويلة وبدا ان كلا من الكاميرا والميكرفون يستقلان تدريجيا عن بعضهما واصبح الاثنان أكثر دقة و مرونة ثم استعادت الكاميرا قابليتها للحركة كما تزايد مجال الصوت الى درجة فائقة . و يعلق رالف على دخول الصوت بشكل طريف : (  لم تقتصر المبالغة على استخدام الحوار فقط . ففي الأفلام الناطقة الأولى قام المخرجون الذين أسكرتهم تلك الوسيلة الجديدة بصم آذان المشاهدين بقدر وافر لامعنى له من الضجيج مثل اشعال أعواد الثقاب وصرير المفصلات وقرقرة الزجاجات ورنين الكؤوس بالاضافة الى ذلك كان التقديم بعيدا عن الدقة غالبا بحيث كان حفيف الثوب مثلا يسمع مثل صوت طقطقة الورق ).
واذا كان الحال في السينما أن الصورة أكثر أهمية من الكلمة ولابد أن تكون لها الاسبقية كما يقول لويس هيرمان فان الكلمة حينما أخذت مكانها في السينما أضافت عنصرا فنيا آخر من الصعب الاستغناء عنه بالرغم من ان الفلم الصامت لم يذهب تماما فهو اختيار فني صعب  يضع المخرج أمام مهمة التطوير القوي والساحر في اسلوب التعبير بالصورة .
في كتابه “كتابة السيناريو للسينما” يحدد الكاتب “دوايت سوين ”  أربع مهام رئيسية على الحوار السينمائي أن يقوم بها:

  • أن يقوم معلومات دون أن يعيق او يعترض تدفق القصة
  • أن يكشف عن العاطفة والحالة النفسية والشعورية للمتحدث
  • أن يدفع بحبكة القصة الى الامام ودون ان يجعل المتفرجين يدركون ذلك
  • ان يحدد شخصية المتحدث او المتحدث اليه بالكشف عن خلفيته أو تعليمه مثلا اومركزه الاجتماعي وغيرها.

 والحقيقة أن  مهمة  الحوار السينمائي  لايمكن حصرها بهذه المهام الأربع التي يحددها سواين في كتابه , فهي بالفعل تبدو وظائف مهمة يقدمها الحوار لكننا سنلاحظ من جانب آخر أن الحوار السينمائي عبر بعض كتابه استطاع ان يتجاوز هذه المهام الى آفاق أخرى أقصى ماتؤديه من مهام هو التعبير عن الشخصية وفكرها .
 

ستيفن كينغ …روائي يلهم أفلام الرعب والغموض والإثارة !!

أكثر من ستين رواية تم تحويلها لأفلام سينمائية حتى اللآن مما يجعل ر الكاتب والروائي الأمريكي  ” ستيفن كنج ” المولود عام 1947 الأشهر بين  الكتاب المعاصرين الذين  اعتمدت سينما هوليوود على كتبهم ورواياتهم  حينما  وجد فيها المنتجون والمخرجون مايصلح ان يكون فلما مثيرا وجماهيريا بسبب تلك الخاصية الغريبة والفريدة التي تملكها مخيلة ستيفن كنج وتجعل من رواياته محل انتظار القراء  وشوق المشاهدين حينما تحول سينمائيا.بسبب فرط الإثارة والتشويق والغموض الذي يكتنفها دائما !! فقبل أن يبلغ الثلاثين يقدم المخرج الكبير برايان دي بالما فيلم الرعب الشهير في السبعينات Carrie معتمدا على رواية ستيفن كينغ حول فتاة خجولة بلا أصدقاء تحميها أمها المتدينة المتسلطة قبل أن تنطلق منها قوى شيطانية !! لكن الأنظار التفتت كثيرا نحو هذا المؤلف الشاب في الثمانينات حينما قدم المخرج الكبير ستانلي كيوبريك تحفة الرعب والغموض The Shining معتمدا على رواية كينغ بعد ان جال كثيرا بحثا عن رواية تصلح فيلما . وقتها أخذ كويبريك رواية كينغ الى عوالمه الخاصة والفريدة معتمدا على النجم جاك نيكلسون في دور كاتب ينتقل مع عائلته في الشتاء الى فندق معزول من أجل الكتابة لكن الأمور تأخذ منحى مرعبا !!
في نفس الفترة يبدو أن المخرجين وجدوا مايمكن أن يكون كنزا لتقديم أفلام مميزة وتحضى أيضا بشعبية جيدة وقبول جماهيري كبير وهذا مايجعل مخرج آخر مثل روب راينر يقدم فيلمين من قصص ستيفن كينغ .. الأول وهو الأفضل وذو تقييم جماهيري ونقدي عالي باسم Stand by Me حول مجموعة أطفال يجدون جثة في غابة .. والثاني هو فيلم Misery حول امرأة مهووسة بكاتب تقوم باحتجازه قسرا !!
ثم وفي عام 1994 ومع الفيلم الاشهر مطلقا من الأفلام التي تم تحويلها اعتمادا على قصص ستيفن كينغ وهو فيلم ” اصلاحية شوشانك “ The Shawshank Redemption حيث قدم المخرج ” فرانك داربونت” واحدا من أفضل أفلام التسعينات وأكثرها شهرة وأحد أشهر أفلام السينما وأعلاها تقييما حسب مواقع مهمة مثل IMDB  ” ذو السبع ترشيحات أوسكارية. قبل أن يعود داربونت مرة أخرى ليقتبس رواية أخرى لستيفن كينغ ويقدم في عام 1999 فلما شهيرا جماهيريا هو ” الميل الأخضر The Green Mile حول مجموعة من حراس السجن يتأثرون بسجين أسود ضخم متهم بالقتل والاغتصاب لكنه يملك هبة خاصة !!
 
ثم في مرة ثالثة يقدم المخرج المقل فرانك داربونت في الألفية الجديدة عام 2007 معتمدا على رواية ستيفن كينغ  فيلما ناجحا هو الآخر بمزيج من الإثارة والرعب والخيال العلمي بعنوان  The Mist حول مجموعة من السكان في مدينة صغيرة تلتجيء داخل سوبرماركت لحماية نفسها من مخلوقات متوحشة تهاجم المدينة بعد هبوب علاصفة شديدة ..وهذا مايجعل داربونت  أكثر المخرجين الذين قاموا باقتباس روايات وقصص ستيفن كينغ حينما قدم ثلاثة أفلام من مجموع أربعة أفلام هي كل ماقدمها داربونت !! ومن جهة أخرى كل هذه الأفلام الثلاثة كانت قد نجحت نقديا وجماهيريا
 
 
وغير هذه الأفلام الشهيرة فان هناك عدة افلام سينمائية وتلفزيونية  تناوب على اخراجها العديد من المخرجين معتمدين على روايات لستيفن كنج – وان كانت لم تحقق شهرة الأفلام السابقة – من مثل ( منطقة الموت ) لكريستوفر والكن , (اطفال الذرة ) لليندا هاميلتون , (الرجل المنطلق) لأرنولدشوارزنجر, (قلوب في اتلانتس) لانطوني هوبكنز ,( صائد الأحلام ) لمورقان فريمان , (سر النافذة ) لجوني دييب كما وأن أحد اشهر أفلام العام الماضي 2017 وأكثرها نجاحا وهو فيلم الرعب والإثارة ( It ) كان قد اعتمد رواية كينغ التي صدرت في الثمانينات . إضافة لعدد من المسلسلات التي اعتمدت قصص كينغ مثل
The Twilight Zone , The Dead Zone , Mr. Mercedes , Castle Rock
 
وبالنظر لموضوعات ستيفن كينغ وأجوائه كما تقدمها السينما عبر الأفلام المقتبسة من رواياته سنجد أنه كاتب مغرم بطرح تلك الشخصيات الغريبة والتي تملك قدرات خاصة  أوقوى هائلة وهي قدرات غير مفهومة يظهر ان اصحابها يتورطون بها وتدفعهم الى أحداث مثيرة جدا في حياتهم كما ويبدو ستيفن كينغ  أيضا  مفعما بروح القوى الخفية وعالم الأشباح والماورائيات وأجواء الرعب . وقد قال ذات يوم”انه لاتزال تسيطر عليه فكرة الغرفة المظلمة فحينما تمد يدك لتضيء أنوارها ستمتد يد أخرى باردة لتمسك بيدك “. اضافة الى عوالم مصاصي الدماء والكلاب المسعورة والقتلة المهوسين  والالات الشيطانية وكائنات الفضاء والتخاطر عن بعد والتواصل الروحي والتلكنسيس وهو تحريك الأشياء عن بعد .والبعض يرجع هذا الأمر وكل هذا الشغف بخلق هذه الأجواء الغريبة الى ماذكره ستيفن كينغ عن نفسه حينما نشر ذلك في كتاب له على الانترنت من أنه  قد شاهد صديقه وهو يموت تحت عجلة القطار اضافة  الى انهماكه بقراءة  روايات الرعب الهزلية  والخيال العلمي  حينما كان يعيش طفولة بائسة وحالمة  كما يقول وتأثره لاحقا بالكاتب أدغار آلان بو.ويعتقد كنج ايضا ان بعضا من شخصياته الخيالية هي انعكاس لشخصيته الحقيقية مثل الكاتب جاك تورانس في فلم ” شاينينق : وميض “.
 

سيرجي آزنشتاين …. رائد سينمائي أنهكته السياسة !

في بروكسل عام 1958 اعلنت لجنة  تحكيم من مؤرخي السينما في 26 دولة أن فلم ” المدرعة بوتمكين ” هو ( أفضل فلم في العالم ) وكان قبل ذلك بعشر سنوات عام 1948 قد اتفقت أراء النقاد العالميين كذلك على وضع ” المدرعة بوتمكين ” على رأس قائمة أفضل عشرة أفلام أنتجتها السينما حتى ذلك التاريخ.
ولاحقا يعتقد الناقد الامريكي الشهير ليونارد مالتين أن مشهد درجات الاوديسا في فلم المدرعة بوتمكين ربما يكون أشهر مشهد سينمائي في التاريخ!!
بينما يعتقد  البريطاني جون جيرسون أحد اشهر منتجي الأفلام التسجيلية”أن حركة الأفلام التسجيلية البريطانية قد ولدت من آخر بكرة لبوتمكين “.
يقف خلف هذا الفلم المخرج الروسي  الكبير والرائد السينمائي ” سيرجي آزنشتاين ” المولود في 23 يناير عام 1898في لاتفيا, مظهرا موهبة مبكرة  منذ طفولته حيث برع في الرسم والتصميم ثم تلقى تعليمه شابا كمهندس مختص بالهندسة المعمارية مدفوعا برغبة والده المهندس,الا ان هذا الأمر لم يدم طويلا فبعد التحاقه بالجيش الأحمر في سن العشرين أبدى ميلا كبيرا للعمل الفني وقام بتصميم عدد من المشاهد والأعمال المسرحية والدعائية المهيجة التي كانت تعمل بهدف تنوير الجنود والعمال والفلاحين أثناء الثورة .
وفي العام 1920 كان آزنشتاين قد ترك الجيش لينظم الى  مسرح “العمال الأوائل” كمصمم أزياء ومناظر ورئيسا لقسم الديكور, وفي حين أنه حقق نجاحا جيدا من خلال مسرحية The Sage الهزلية الا ان اهتمامه بالفلم والاخراج دفعه في الأخير  لترك العمل في مسرح  مايرهولد وحركة الثقافة البروليتارية ليكرس نفسه للعمل في السينما ويخرج أول أفلامه عام 1923 ” يوميات غولوموف ” وهو فلم هزلي قصير لمجموعة مقتطفات اخبارية بعد ان كان قد شارك في بعض الاعمال مثل ” المكسيكي ” والمقتبسة من جاك لندن .
ثم يحقق آزنشتاين نجاحا أكبر من خلال أول فلم روائي طويل عام 1925 “إضراب” الذي نال تقديرا كبيرا جعل اللجنة المكلفة بتنظيم حفلات ذكرى الثورة تكلفه بتصوير فلم عن ثورة 1905 والذي حوله فيما بعد فلما عن  احدى احداث هذه الثورة واكثرها تعبيرا عنها وهو فلمه الاشهر” المدرعة بوتمكين “.
 ولأن أزنشتاين قد درس أعمال المخرج الأمريكي “ديفيد و.غريفيث” وتجارب و مواطنه كيولوشف في المونتاج بالإضافة إلى تقنيات الروسية ايزفير شب في إعادة تجميع اللقطات الوثائقية ، كل هذا جعل أزنشتاين يؤمن بقدرة السينما على التلاعب بالزمان و المكان في سبيل إضافة معان جديدة أو بث إيحاءات معينة للمشاهد.
زفي فلمه الأول “إضراب” ، يستخدم هذا المخرج المبتدئ أساليب تعبيرية و كنايات بصرية تظهر بأنه متابع جيد لما قدمته وتقدمه التعبيرية الألمانية في بداية العشرينات ، وحيث أن القصة تتضمن جواسيس من الشرطة ، فالكاميرا التي استخدمها أزنشتاين تأخذ زوايا توحي بأنها كمن يختلس النظر أو يتجسس على غيره.
كان فيلم “إضراب” في موضوعه أشبه بالمقدمة لفيلم أزنشتاين الأعظم “المدرعة بوتمكن” ، ففي حين تمحور الأول حول القمع العنيف الذي لقيه إضراب عمال مصنع عام 1912 ، فإن الثاني كان عن تمرد جنود على مدرعة بحرية في ثورة 1905 ، وهنا وفي أفلام أخرى لأزنشتاين نفسه نجد لديه تفاؤلا وإيمانا عميقا بهذه المرحلة الجديدة في تاريخ بلاده ، إلى الدرجة التي جعلت معظم أفلامه السبعة تتحول بشكل أو بآخر إلى بروباغاندا شيوعية متقنة , تدور في معظمها حول الصراع الطبقي تارة ، أو عن أحداث الثورة البلشفية تارة أخرى، هذا الإيمان المطلق في الثورة نجده واضحا لدى أزنشتاين حين يقول “أعطتني الثورة أثمن شيء في حياتي – لقد جعلت مني فنانا. ولو لم تقم الثورة لما كان من المفروض أن أحطم تقاليد الأسرة على الإطلاق ، إذ كان المفروض أن أصير مهندسا”.
فيلم المدرعة بوتمكن” في عام 1925 وضع اسم أزنشتاين على الخارطة السينمائية ليس كمخرج عالمي فقط ولكن كرائد من رواد السينما ،احتوى الفيلم على أساليب مونتاج ، ولقطات مقربة لا تزال تدرس حتى الآن في مدارس السينما حول العالم ، لقد برع أزنشتاين في تصوير المعاناة البشرية في فيلمه إلى الحد الذي سبب اضطرابات في بعض صالات السينما خارج روسيا لأن بعض المشاهدين اعتقدوا بأن ما يرونه هو فيلم إخباري قصير.
لقد كان الفيلم برهانا ساطعا لنجاح نظرية أزنشتاين في المونتاج ، التي يعمد فيها إلى جمع لقطتين مستقلتين تماما يشكل ربطهما معا صورة ثالثة تنشأ في ذهن المشاهد ، وهو ما يعرف بالمونتاج الذهني الذي تكلم عنه أزنشتاين لاحقا في كتبه.
التوافق ، أو فلنقل الحماس الأيدولوجي الذي أبداه المخرج الشاب بإخلاص تجاه الشيوعية ، لم يلق في المقابل نفس الحماس من السلطة السياسية ، فبعد “المدرعة بوتمكن” جاء فلم “أوكتوبر” ليحتفل بأيام الثورة البلشفية العشرة في 1917 ، لكن التعقيد الذي بدأ يظهر في هذا الفيلم لم يكن مفضلا لدى منظري الشيوعية الذين كان يرون بأن الفن يجب أن يكون شعبويا وسهلا ، يصل إلى كل طبقات المجتمع ليؤدي “وظيفته الدعائية” بشكل أفضل ، لهذا أعيد تحرير لقطات كثيرة من الفيلم ، وهو تدخل تكرر أيضا في فيلمه التالي “خط الجنرال” حين اجتمع ستالين بأزنشتاين وشريكه في الإخراج “غريغوري أليكسندروف” و أمرهم بعمل تغييرات جذرية في الفيلم.
أثناء رحلة دامت 3 سنوات طاف فيها أزنشتاين أوربا وأمريكا والتقى بمشاهير السينما أمثال “ديزني” و “شابلن” الذي أصبح صديقا حميما له ، كما التقى بروبرت فلاهيرتي رائد الأفلام الوثائقية الذي شجعه على تصوير فيلم وثائقي عن المكسيك بتمويل من الكاتب أبتون سنكلير ، لكن ضغوط مالية وأخرى سياسية من ستالين نفسه الذي كان يخشى أن يطلب أزنشتاين اللجوء السياسي أثناء رحلته هذه حالت دون اكتمال الفيلم ، رجع أزنشتاين إلى موسكو مع وعود بأن ترسل إليه المشاهد التي تم تصويرها ليحررها ولكنه لم يرى مشاهده مرة أخرى ، وهو ما جعله يصاب بانهيار عصبي تلو الآخر ، فبعد رجوعه ، كانت أفكاره الأصلية والجريئة ترفض بفظاظة ، وبالذات من رئيس صناعة السينما السوفيتية بوريس شوماتسكي الذي كان يريد صنع “هوليوود ستالينية” شعبية ومبهرجة وهو ما جعل أزنشتاين يلجأ إلى رئاسة قسم الأخراج في معهد موسكو السينمائي ليصبح معلما وباحثا لسنوات.
في عام 1938 صنع أزنشتاين فيلما ملحميا ضخما اسمه “أليكساندر نيفسكي” عن أمير روسي يصد اجتياحا ألمانيا في القرن الثالث عشر الميلادي ، في تشابه مقلق للوضع في أوربا في السنوات التالية ، رغم النجاح التجاري والسياسي الكبيرين ، فإن هذه الملحمة شكلت رجوعا كبيرا عن أسلوب المونتاج الذي اعتمده أزنشتاين سابقا ،إلى “سينما المسرح” وأوبرات العشرينيات التي طالما عارضها أزنشتاين سابقا.
وفي دلالة واضحة على التقلبات السياسية التي كان على أزنشتاين التكيف معها يكفي أن نعرف أنه منح عن فيلم “أليكساندر نيفسكي” وسام لينين عام 1938 ، ثم بعد توقيع معاهدة سلام مع ألمانيا وضع الفيلم على الرف بكل هدوء ولكن ما إن اجتاح الألمان الأراضي السوفيتية حتى عاد الفيلم إلى العرض مرة أخرى.
في عام 1941 كلف أزنشتاين بإخراج ملحمة تاريخية أكبر من ثلاثة أجزاء ، “إيفان الرهيب” عن القيصر الروسي إيفان الرابع ، وفيما كان الجزء الأول ناجحا للغاية ومنح بسببه جائزة ستالين ، لكن الجزء الثاني منع من العرض بسبب استعراض أزنشتاين الجرئ لشرطة القيصر السرية التي رأت فيها اللجنة المركزية إشارة واضحة إلى لينين ، كما قامت بتدمير مشاهد الجزء الثالث غير المكتملة ، الشيء الذي أصاب أزنشتاين بأزمة قلبية أدخلته المستشفى لأيام ، ورفض التماسه الذي قدمه إلى ستالين ليسمح له بإعادة تحرير الفيلم كما تريده الدولة ، ولم يعرض الجزء الثاني إلا في 1958 بعد موت ستالين.
ومما يلفت النظر في حياة هذا الرائد السينمائي اهتمامه بقراءة رائد سينمائي آخر هو المخرج الامريكي العظيم دافيد غريفيث ودراسته لأعماله بسبب أثره الكبير على السينما العالمية ومنها السوفيتية وهذا ماجعل آزنشتاين يسهب في الكتابة عنه و عن دينه لغريفيث وفضله عليه ويتحدث بتفصيل ودقة عن مساهمة غريفيث في كيان السينما الأساسي وكيف أن شكل الفلم لدى السوفيت قد اتخذ أبعادا معقدة واتسع مداه بعد غريفيث , يقول آزنشتاين : ” إني أود أن استحضر ماقدمه لنا غريفيث نحن مخرجي الافلام السوفيتية في العشرينات , بكل بساطة ان ماقدمه لنا كان الهاما “.
ومثل هذا لاهتمام من آزنشتاين بغريفيث لم يجعله مجرد تلميذ حاذق ومخرج متأثر وأنما نقله هو الآخر الى صف الريادة السينمائية بجانب غريفيث وهذا مايؤكده الناقدالامريكي بيتر دارت حيث يرى ” ان هناك عظماء اسهموا بنصيب كبير في السينما الا ان الامريكي غريفيث والروسي آزنشتاين هما الأهم لأن كليهما مبدعان وخلاقان وهما اللذان عملا على دفع الشكل والكيان الاساسيين للصور المتحركة – يعني الفلم – قدما الى الامام ” ويضيف ايضا ” ان آزنشتاين كان دائما أكثر استنباطا من غريفيث  وان تحليلاته لشكل الفلم من بين أهم ماكتب عن النواحي الجمالية للسينما” . ومن جانب آخر لطالما اعترف منتجو الأفلام التسجيلية في امريكا وبريطانيا بتأثير آزنشتاين عليهم وكيف انهم استلهموا بعض الاساليب الفنية من افلامه الصامتة.
فلم يكن أزنشتاين إذا مخرجا فحسب ، فقد سمحت له ثقافته العالية ودراسته للفلسفة وعلم النفس واللغويات ـ وقراءاته في الفرنسية والانجليزية والألمانية واليابانية بأن يصبح من منظري السينما ونقادها الأوائل , يقول المخرج العبقري الأمريكي ستانلي كوبريك : ” ان افضل وسيلة لدراسة السينما هي الغوص في العمل السينمائي وتحقيق فلم قصير ربما لايزيد عن ثلاث دقائق بدلا من الدراسات  الطويلة , اما الذين يحبون القراءة الى جانب الممارسة فليس أفضل من قراءة كتاب أو اثنين لايزنشتاين أو بودوفكين”.
  توفي سيرجي آزنشتاين عام 1948 بعد أن امضى خمساوعشرين سنة في عالم السينما لم تتجاوزفيها افلامه العشرة  مخلفا ورائه  عددا من الكتابات المتناثرة وكتبا رائدة اهمها : “حس الفيلم” و “شكل الفيلم” و “مذكرات مخرج سينمائي”  ترجمت هذه الكتب إلى لغات عديدة وأصبحت تدرس بجانب أفلامه في عدة دول.
 
 

الحكاية المدهشة خلف تحفة فيلليني الشهيرة !

 
 
فيديريكو فيلليني …أحد أشهر وأهم الاسماء في تاريخ السينما  التي لايمكن لأي متابع او مهتم او حتى مجرد مشاهد سينمائي عابر الا ويقف عند هذا الاسم الكبير ليحضى بجزء من تفرده الخاص بالابداع منذ بدأ كاتبا ناجحا حتى انتهى مخرجا عظيما
وقبل أن يبدأ فيلليني مسيرته الحافلة في الاخراج مع اول روائعه Variety Lights عام 1950 كان قد وضع أوائل بصماته في الابداع السينمائي عبر الكتابة خلال عقد الاربعينات حينما بدأ العمل  ككاتب سيناريو في حقبة الواقعية الإيطالية حيث غالبا ما كان يعمل مع المخرج الشهيرربيورتو روسيلليني فكان أول أعماله كتابة سيناريو أحد أهم أفلام الواقعية الايطالية Rome, Open City (1946) بجانب سيرجيو أميدي ومنه كان  ترشيحهم الاول لجائزة الأوسكار كأفضل سيناريو. قبل ان يعود مرة اخرى  ليرشح  لأوسكار أفضل سيناريو مع أميدي و روسيلليني في 1950 لفلم Paisan  بإخراج روسيلليني أيضا. لكنه لم  يكتسب فيلليني شهرته العالمية  ويضع أولى بصماته الاخراجية حتى عام 1953 حين فاز فلمه إي فيتوليني   (1953) بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية و كان أحد المرشحين لجائزة الأسد الذهبي  ومن هنا بدأت الحكاية …
ففي السنة التي بعدها, واصل فيلليني نجاحه بنجاح أكبر في فلم ” لا سترادا /  La Strada ” (1954) ببطولة زوجته جوليتا ماسينا , حيث فاز بأكثر من خمسين جائزة عالمية تتضمن الأوسكار لأفضل فلم أجنبي , وهي السنة التي تقدم فيها هذه الجائزة للمرة الأولى  , بالإضافة إلى الأسد الفضي و الترشح للذهبي في مهرجان البندقية. كما حظي الفلم بإعجاب نقدي عالي حيث يعد أحد أكثر الأفلام تأثيرا على السينما . و في 1957 صدر فلمه الشهير ايضا ” ليالي كابيريا /  Nights of Cabiria  ” ومن بطولة زوجته جوليتا ماسينا حيث  فاز الفلم بالأوسكار لأفضل فلم أجنبي أيضا بعد ثلاث سنوات فقط من فوزه الاول, كما فازت زوجته بمهرجان كان كأفضل ممثلة .
 
حينها كان  فيلليني قد عرف واشتهر كأحد العظماء في تاريخ السينما الإيطالية بجانب لوكينو فيسكونتي و فيتوريو دي سيكا و معلمه روبيتر روسيليني , و لكن لم يتنبأ أحد بقدوم الإعصار الذي اجتاح العالم عام 1960 بإسم ” لا دولشي فيتا /  La Dolce Vita   “حيث حطم الفلم جميع الأرقام القياسية لصندوق التذاكر و اصطف الناس ساعات طويلة لمشاهدة الفلم . كما واجه الفلم هجوما كبيرا من الفاتيكان و وصفوه بالفلم المعيب , و استنكره أعضاء الجناح اليميني في البرلمان لمواضيعه المثيرة للجدل . فيما تجرأ احد المتعصبين ليقوم بالبصق على فيلليني في أحد المؤتمرات الصحفية فيما كان الجمهوريصرخ عليه بالشتائم . ولم يكن الحال افضل منه حينما فاز الفيلم بالسعفة الذهبية بمهرجان كان في تلك السنة حيث واجه الجمهور ذلك بالاستهجان وتعابير الاعتراض !
 
و بعد هذه الضجة و النجاح الساحق الذي أحدثه فلمه الأخير هذا  وجد فيلليني نفسه تحت ضغط كبير حيث ظل العالم السينمائي وقتها بأكمله يترقب كيف سيكون فلمه القادم وماالمستوى الاعلى الذي سيصل اليه او التجربة الفريدة الاخرى التي سيحققها , كما كان تحت ضغط من المنتجين و طاقم العمل و أصبح القلق يساوره فيما كان سيقدر على اتباع مسيرته هذه بتحفة جديدة لاتخيب ظن المنتجين وآمال عشاقه  . مما أدى الى توقف أفكاره وانسداد الهامه واصبح في حيرة كبيرة لايستطيع معها أن يحدد كيف سيبدأ فلمه القادم , و في أمل لإيجاد حل لهذي المشكلة وطريقة يستأنف فيها معين ابداعه من جديد بدأ فيلليني بالبحث فقط عن مواقع لتصوير فلمه القادم دون حتى ان يتصور اسم الفيلم او أحداثه أو حتى شخصياته . فبدأ بخطوات إنتاج الفلم في عام 1962 حيث وقع فيلليني العقود مع المنتجين و تم بناء مواقع التصوير و إختيار الأبطال و إختبار ممثلين جدد و التعاقد مع طاقم العمل و المصورين , و لكن فيلليني ما زال لا يعلم عن الفلم شيئا سوى اسم بطله ( والذي أدى دوره أحد عمالقة التمثيل السينمائي مارسيلو ماستروياني بطل فيلمه السابق) و عند إقتراب موعد التصوير قرر فيلليني أن يتخلى عن المشروع وابلغ المنتجين بذلك بحجة أنه خسر فلمه الا انه وقبل أن يعلن عن تخليه هذا  طلب منه المنتج حضور حفل بدء المشروع , و أثناء الحفل يحكي فيلليني أنه شعر بالعار الشديد تجاه الطاقم الذي كان ينتظر إبداعه , و في تلك اللحظة وجد فيلليني الحل و قرر أن يصنع فلما يحكي الحالة التي كان يعيشها تحت الضغوط … قصة المخرج الذي لم يعد يعلم ما هو الفلم الذي يريد إخراجه … قصة التحفة السينمائية الشهيرة ” ثمانية ونصف ” !!

عن الخطاب النسوي في السينما العربية !!

 
في العام الماضي قدمت الدكتورة والباحثة الجزائرية الدكتورة عواطف زراري كتابها الرائع الذي يمثل إضافة مهمة في الكتب السينمائية العربية ويتناول إحدى أهم جوانبها  ( الخطاب النسوي في السينما الروائية العربية … المرأة العربية من إرهاصات التغيير إلى سينما المرأة ) .
وحيث أن المؤلفة ذات بحث واستقصاء كما كتبت لأكثر من مرة مثل موضوعاتها حول صورة المرأة في السينما الجزائرية أو صورة المجاهد في السينما الجزائرية فإنها في بحثها الأوسع هذا كما تشير في مقدمة كتابها    تحاول  ( جاهدة الاهتمام برؤية مغايرة للرؤية الذكورية من خلال التعرض للسينما المضادة التي نشأت في الجهة الأخرى والتي تمثلت بالسينما النسوية التي استطاعت بفضلها المرأة أن تترك بصمتها الأنثوية على مختلف مجالات الصناعة السينمائية سواء في الإخراج او المونتاج او كتابة السيناريو )
وعطفا على أهمية هذا الموضوع فقد بدأت المؤلفة كتابها في فصله الأول بدراسة واستقصاء فكري اجتماعي حول واقع المرأة العربية وإرهاصات التغيير وصورة المرأة العربية اجتماعيا وفي الثقافة التقليدية ومن ثم تطور هذه الصورة .ودور الحركات النسوية والحقوقية ولوائح المعاهدات الدولية والسياسية في دفع هذا التغيير .
قبل ان تتجه إلى محور الموضوع في الفصل الثاني والأهم  من الكتاب حينما تحدثت عن انعكاس الخطاب النسوي العالمي والغربي تحديدا على السينما العربية منذ مرحلة الخمسينات وماقبلها كنموذج للمرأة الأسطورية ثم الستينات ونموذج المرأة المتمردة ثم السبعينات وسلطة الجسد الأنثوي عبر الشاشة ثم الثمانينات والتسعينات وتلك المحاولات في التقرب من الواقع الاجتماعي للمرأة .
لتتجه بعد ذلك  إلى إشكالية مصطلح ” فيلم المرأة ” وماالذي يعبر عنه تحديدا ..” نظرا لقلة عدد الأفلام أو المخرجات وعدم اكتمال التيار وتشتت الاتجاه والأفكار ” وهل هذا المصطلح يمكن إطلاقه على مايعالج قضايا ومشكلات المرأة  بصرف النظر عن جنس مبدعها أم هو مايطلق على الأفلام التي يقف خلفها مبدعة امرأة بغض النظر عن نوعية الموضوع الذي تتناوله حتى لو كان شأنا عاما لايتعلق بالمرأة وحدها !!
يعد ذلك تذكر الدكتورة أهم القضايا المطروحة فيما يسمى -الفيلم النسوي – العربي مابين طغيان الوضع الاجتماعي والجنسي في السينما المصرية وطغيان موضوعات الحرب والصراع السياسي في السينما اللبنانية  مدعمة كلامها بطبيعة الحال بالعديد من الأمثلة فيلما وإخراجا .وإن كانت تشير إلى نوع من الاختلاف داخل هذه السينما العربية حيث تستشهد بالناقد المغربي مصطفى المسناوي الذي يرى : أن السينما في دول المغرب العربي ذات مسار مختلف عن سينما المشرق العربي في تقديم رؤية أكثر تقدمية لصورة المرأة في السينما .
فيما تختتم هذا الفصل الثري بما أسمته -معالم الخطاب النسوي السينمائي العربي –  عبر معلمين مهمين هما المرأة كرمز ايديلوجي في السينما العربية  حيث تقول ( إن تغيير صورة المرأة في المجال السينمائي وطرح قضيتها بجدية  وبصورة إبداعية تسمح بترتيب الوضع النفسي وتكشف لنا هشاشة وضعنا الإنساني  والعوالم المضادة وتسمح لنا بالإطلالة على النموذج المقهور وتحفزنا على تغييره ونقده …) بينما المعلم الثاني هو مايتعلق بالتوجه الغربي للخطاب النسوي السينمائي العربي حيث ترى ارتباط تلك القيم الغربية بالصورة التي رسمتها السينما النسوية العربية وخاصة مايتعلق بأمور الحب والمال والقوة مدللة على كلامها بنماذج معروفة مثل المخرجة جوسلين صعب ومي المصري  وإيناس الدغيدي .
أما في الفصل الثالث والأخير والذي أخذ نصيبا كبيرا يتجاوز النص من هذا الكتاب القيم الذي قدمته الدكتورة عواطف زراري في أكثر من 400 صفحة فقد خصصته لذكر نماذج ونظرة على أهم أفلام السينما الروائية النسوية العربية بداية من مصر مرورا بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق والسعودية ثم المغرب العربي متمثلة بأفلام تونس والمغرب والجزائر في ذكر طويل ودقيق عبر هذا الفصل لعدد من أهم الأفلام ومحاولة استنطاق الحس النسوي فيها وعبر تصريحات مبديعها من المخرجات السينمائيات كنماذج دالة على الأطروحة الأساسية للكتاب .
 
*نشر في مجلة ” زهرة الخليج ”
 

فكرة رومانسية … القصة ذاتها تتكرر !!

ليس في السينما فحسب , بل إن الامر بدأ مع القصة و الرواية وبطبيعة الحال قبل ذك في كل حكاية ترويها المجتمعات البشرية لتعبر عن فكرة واحدة ” الحب أقوى من كل شيء ” ومن ثم تعزز عبر هذه القصة فكرة المساواة وإدانة التفرقة الطبقية والعنصرية وغيرها . ومنذ بدات الفنون انتقلت هذه ” الفكرة ” الرومانسية نحو المسرح تحديدا حتى وصلت إلى السينما كما هو منتظر … إنها الفكرة الرومانسية والقصة الجميلة دائما والتي تحكي علاقة حب بين اثنين من طبقة مختلفة أو مرجعات اجتماعية مغايرة .. الأمير والخادمة مثلا ( سندريلا ) أو الفارس والأميرة .. ومن ثم تطور الأمر لما هعو ابعد من الاختلاف الطبقي والمكانة الاجتماعية ومن هنا جاءت بعض أفضل الأفلام السينمائية التي عالجت هذه الفكرة .
في الخمسينات مثلا كان المخرج الكبير دوغلاس سيرك قد قدم أحد افضل أفلامه في الدراما الرومانسية بعنوان
All That Heaven Allows
وهو يحكي قصة المرأة الارملى كاري سكوت ( وقامت بدورها النجمة جين وايمان ) وهي تؤدي شخصة الزوجة التي مات عنها زوجها تاركا خلفه زوجة مع ابن وبنت  لتعيش بشكل هاديء ومنعزل نوعا ما سوى لقاءاتها مع دائرة صغيرة من الأصدقاء المقربين ومع غياب أبنائها غالب الأسبوع في المدينة فهي ستعيش وحيدة طيلة الوقت بشيء من الملل . إلا ان الأمور تتغير تدريجيا منذ تعاقدها مع الشاب رون كيربي ( تمثيل روك هودسون ) الذي يحضر مابين لفصلي الربيع والخريف  من اجل تقليم الأشجار والعناية بالحديقة . رون أصغر منها بكثير ومن طبقة مختلفة إلا أنه يحضى بثقتها ليتحول إلى صديق محبب لدى كاري سكوت قبل أن تتطور الامرو لتصبح علاقتهما حبا يغمر الطرفين سيواجه اعتراضا من أصدقاء كاري وامتعاضا كبيرا من ابنيها وهنا عليها أن تقرر مالذي ستفعله تجاه هذه العلاقة ومشاعرها وواجبها تجاه ابنيها !
تصف الناقدة لويس كيلر من Urban Cinefile الفيلم بأنه ( فيلم كلاسيكي وجميل لأولئك الذين يحبون القصص الرومانسية )  بينما تعتبر TV Guide الفيلم بأنه ( واحد من أرقى أفلام سيركس ) ويثني ديفيد باركينسون من مجلة إمباير على السرد في الفيلم بأنه (يتجاوز نوعه مع العمق البصري والرؤى الاجتماعية والثقافية الإدراكية )
اما في السبعينات فيقدم الألماني راينر فاسبندر أحد أفضل وأهم أفلام هذا النوع عبر الدراما الرومانسية الشهيرة
Ali: Fear Eats the Soul
الفيلم الأبرز تلك السنة في مهرجان كان عام 1973 حيث فاز بجائزة الفيبرسي الشهيرة وجائزة Prize of the Ecumenical Jury وبقي الفيلم فيما بعد كإحدى الروائع السينمائية . هنا يأخذ فاسبندر الفكرة الأساسية -حول علاقة غير متكافئة تفرضها مشاعر الحب والا رتياح – إلى مداها الأبعد بشكل أكثر امتحانا للمنظومة الأخلاقوية والقيم المدعاة حينما يروي قصة إيمي المرأة الألمانية في منتصف الستينات والتي تقع في حب الرجل الأسمر علي المهاجر والعامل المغربي الذي يصغرها بأكثر من ثلاثين سنة ثم بعد فترة من العلاقة والانسجام يقرران الزواج مما يجعل من حولهم مرعوبين من هذه الفكرة وبالأخص عائلة ايمي وابنائها .
قوة الفيلم ولاتنبع فحسب من مخرجه الألماني المتميز فاسبندر وإنما من طبيعة المعالجة والسرد النفسي الذي عمله في هذا الفيلم لقصة تبدو بسيطة بشكل معقد . ولذا كان الفيلم ضمن قائمة ” الأفلام الرائعة ” لروجر ايبرت وقائمة ستيفن شنايدر التي عنونها ب( 1001 فيلم  يجب ان تشاهدها قبل أن تموت ) كما واحتل الفيلم المرتبة 66 في قائمة افضل 100 فيلم غير ناطقة بالانجليزية حسب استطلاع لرأي النقاد أجرته هيئة الإذاعة البريطانية العام الماضي 2018 فيما حصل الفيلم على النسبة الكاملة 100% في موقع تقييمات النقاد الشهير Rotten Tomatoes بتقييم 34 نقادا وهذا مما يعد شيئا نادرا .
وبطبيعة الحال استمرت هذه الفكرة ومازالت في عدد كبير من الأفلام السينمائية مثل الفيلم الرومانسي الشهير  عام 2004 The Notebook والذي حضي باعجاب كبير من الجماهير والمشاهدين ودخل تجاري جيد لكنه حصل على مراجعات نقدية سيئة لأسباب متعددة ربما منها رتابة القصة وإيغالها في التقليدية حيث يروي الفيلم علاقة شاب فقير ( رايان غوسلينغ )بشابة غنية ( راشيل ماكدامز ) والذي استطاع أن يريها الحياة بشكل مختلف ويحررها من مجتمعها الغني المتبلد قبل ان تتدخل العائلة لتحاول الفصل بينهما .

دانيال دي لويس النجم الذي يحضر ليكسب أوسكارا!

بعد فيلمه الأخيرPhantom Thread عام 2017، صرح مدير أعمال النجم دانيال دي لويس، بأن دانيال سيعتزل التمثيل. كان الأمر مفاجئاً بعض الشيء، إلا الذين عرفوا دانيال عن قرب أو عملوا معه، حيث كان يبدي رغبته هذه والتي تتسق مع تباعد أفلامه وقلة عددها، قياساً ببدايته الفنية عام 1971، حيث لا تتجاوز أفلامه 21 فيلماً، تتخللها فترات من الغياب والابتعاد عن الأضواء، كما حدث حينما ذهب إلى إيطاليا لتعلم صناعة الأحذية، حتى تمكن المخرج مارتن سكورسيزي من اقناعه بالحيلة، للقيام بدور بيل الجزار في فيلم Gangs of New York عام 2002.

إنجاز

لكن يمكننا أن ندرك حجم الإنجاز الكبير، الذي قدمه دانيال خلال هذا العدد القليل من الأفلام، حينما نعلم أنه ترشح لست جوائز أوسكار كأفضل ممثل رئيسي، فاز بها لثلاث مرات كإنجاز فريد غير مسبوق في مجال تمثيل الرجل، ووضعته مجلة Empire  في عام 1997 بعد فيلمه الخامس عشر، وترشيحين للأوسكار نال الجائزة مرة واحدة فيهما، في المرتبة الـ25 في قائمة «أفضل 100 نجم أفلام في كل العصور».

 سيرة 

ولد دانيال عام 1957 في لندن من عائلة فنية أدبية، فوالده كان شاعراً وكاتباً معروفاً، ووالدته كانت ممثلة. أما هو فلم يكن بارعاً في دراسته بقدر موهبته اللافتة في التمثيل، والتي ألحقته بـ«مدرسة بريستول اولد فيك المسرحية»، فقد كان ميالاً للأعمال الحرفية والنجارة في مراهقته، بجانب موهبته في التمثيل التي وضعته على أولى عتبات طريق النجومية والشهرة والإبداع، وهو في سن الرابعة عشرة، مشاركاً بدور صغير في فيلم Sunday Bloody Sunday، قبل أن يشارك عام 1982 سينمائياً عام 1982 في فيلم «غاندي» 1982 مع المخرج ريشارد اتنبرا، ثم عام 1984 مع النجوم أنطوني هوبكنز ولورانس أوليفي وميل غبسون في فيلم «السفينة باونتي»، إلا أن انعطافته الحقيقية والتي لفتت الأنظار إليه ونقلته إلى كبار الفنانين، كانت عام 1989، حينما فاز بأوسكاره الأولى عن شخصية الكاتب والشاعر كريستي براون، المولود بشلل دماغي والذي تعلم الرسم والكتابة مع أطرافه الوحيدة، التي يمكن السيطرة عليها، التي قدمها في فيلمMy Left Foot:The Story of Christy Brown.     

ثاني ترشيح أوسكار

تعاون دانيال في عام 1993 مع المخرج سكورسيزي، لأول مرة في فيلم درامي رومانسي The Age of Innocence، في قصة تعود أحداثها للقرن التاسع عشر في نيويورك، وتدور حول حكاية مجتمع رفيع المستوى يقع فيه محامٍ شاب في حب امرأة انفصلت عن زوجها، بينما كان يعمل مع ابن عم المرأة. وفي نفس العام يستعين به المخرج الأيرلندي جيم شيردان ليحقق من ترشيحه للأوسكار الثانية، كأفضل ممثل عبر الفيلم الرائع والمقدر كثيراً In the Name of the Father، الذي تدور أحداثه حول اعتراف رجل بالإكراه على تفجير حانة في لندن، وانتسابه للجيش الجمهوري الأيرلندي مما يؤدي إلى سجن والده كذلك. بينما يتصدى محامٍ إنجليزي لإثبات براءته مع أصدقائه. ثم سيعاود التعاون مرة أخرى مع المخرج جيم شيردان عام 1997 بفيلم The Boxer حول الموضوع ذاته المتعلق بالجيش الجمهوري الأيرلندي، ولكن هنا من خلال قصة الشاب داني فلين الذي يطلق سراحه بعد 14 سنة في السجن ليحاول بناء حياته من جديد في بلفاست.

بيل الجزار

أما ترشيحه الثالث أوسكارياً فيأتي مع تعاونه الثاني مع المخرج مارتن سكورسيزي بعد انقطاع 5 سنوات، وذلك عبر فيلم العصابات والجريمة من القرن التاسع عشر Gangs of New York، حينما يسعى شاب من أصول إيطالية إلى الانتقام من بيل الجزار المتحكم في منطقة فايف بوينتس، وهذا الفيلم يعد واحداً من أكثر الأفلام الجماهيرية. وبعدها يبدأ دانيال تعاونه الأول مع المخرج باول توماس اندرسون وترشيحه الأوسكاري الرابع، الذي يحقق له الفوز الثاني بالجائزة، من خلال فيلم There Will Be Blood بالشخصية المريعة دانييل بلانيفيو، العامل في حقول النفط مع اكتشافه في أميركا. ثم يحقق دانيال بعد 5 سنوات أيضاً أوسكاره الثالثة مع ترشيحه الخامس، تحت قيادة المخرج ستيفن سبيلبيرج هذه المرة، وهو يؤدي شخصية الرئيس لينكولن إبان فترة الحرب الأهلية وتحرير العبيد. ثم يقرر التوقف لخمس سنوات أخرى، قبل أن يعود للسينما بطلب من المخرج باول توماس اندرسون، وليحصل على ترشيحه السادس، وهو يقدم آخر أفلامه حتى الآن عام 2017 Phantom Thread، مؤدياً شخصية خياط شهير من الخمسينات. ولا يعلم أحد حتى الآن، إذا ما كان قرار دانيال نهائياً بالاعتزال، أم أنه سيعود حينما يكمل الخمس سنوات غياباً!

محطات من حياة دانيال:

•  كان ممثلاً منهجياً ممن يعيشون الشخصية في حياتهم الواقعية، وينغمسون فيها بشدة، فمثلاً تعلم اللغة التشيكية من أجل فيلم The Unbearable Lightness of Being.

• فضل البقاء في حياته الشخصية على كرسي متحرك أثناء تصوير مشاهد فيلمه My Left Foot، حتى يتقن دور المقعد تماماً.

•  خلال تصوير فيلم The Last of the Mohicans بنى زورقاً، وتعلم تعقب الحيوانات والجلد، وأتقن استخدام بندقية فلينتلوك 12 رطلاً، التي أخذها في كل مكان ذهب إليه، حتى إلى عشاء عيد الميلاد.

• عمل 3 سنوات من أجل التحضير لشخصية  دانييل بلاينفيو في فيلم There Will Be Blood.

• قلده الأمير ويليام دوق كامبريدج لقب (فارس/‏السير) في قصر باكنغهام عام 2014 تقديراً لمهنته السينمائية الحافلة بالإنجاز.

  • نشر في مجلة ( زهرة الخليج )

دراما الحزن في أفلام الفقد والوجع !

منذ بداية المسرح وفن القصة والتراجيديا -أو تصوير المأساة في أبسط معانيها – من أهم الموضوعات التي نالت اهتمام المؤلفين والفنانين وحضيت أيضا باعجاب الجمهور او تفاعلهم . ولذا فإن السينما تأتي امتدادا طبيعيا في تناول هذا الموضوع بكل درامي فني . لكن مما لاشك فيه أن كمستوى التناول والمعالجة لقصص الحزن والماساة وأحداث الفقد والوجع تتباين مابين المعالجة الدرامية الفنية والمعالجة النمطية والمبتذلة . وهنا يمكا أن نستعرض أبرز أفلام ” الفقد ” او تلك القصص التي يفقد فيها شخص أو عائلة شخصا عزيزا مما ينعكس على طبيعة حياتهم وطريقة تصرفهم فيما بعد ويشكل حالتهم النفسية والعاطفية .
البداية لتكن مع مطلع الثمانينات والفيلم الأوسكاري عام 1980 Ordinary People الذي توج تلك السنة كأفضل فيلم وسيناريو مقتبس وبالطبع أفضل مخرج للنجم المخضرم روبيرت ريدفورد . الذي اعتمد في هذا الفيلم على رواية بنفس الاسم لجوديث غوست صدرت منتصف السبعينات وتحكي  قصة عائلة ثرية تفجع بوفاة ابنها الأكبر وتوتر حياتهم واكتئاب ابنهم الأصغر نتيجة مقتل أخيه .
على نفس المستوى وبمعالجة أكثر عمقا يأتي عام 2001 الفيلم الإيطالي الشهير الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان غرفة الابن/ The Son’s Room فهنا عائلة مستقرة وسعيدة تنقلب حياتهم رأساعلى عقب بعد وفاة ابنهم المفاجيء غرقا ممايدخل الأب وهو طبيب نفسي في دوامة من الحزن والهوس بالحادثة لدرجة أنه اصبح يلوم حياته ووظيفته ومرضاه الذين حرموه كما يعتقد من قضاء وقت أطول مع ابنه .
في نفس السنة وعلى مستوى مختلف في المعالجة أيضا يأتي الفيلم In the Bedroom الذي كان قد رشح كأفضل فيلم ونص مقتبس وافضل ممثل وممثلة وممثلة مساعدة مما يعطي قيمة كبرى للأداءات هنا . فهو لايتوقف عند مقتل الابن واثره على الوالدين الوحيدين وإنما مايمكن أن يفعله هذا المقتل في تغيير تفكير الأم مديرة المدرسة المحترمة والأب طبيب البلدة حينما يحاولان تجاوز هذه الخسارة والحزن بفعل شيء ما .
في عام 2002 يقدم المخرج الكبير جيم شريدان صاحب فيلمي ( باسم الاب , قدمي اليسرى ) فيلما دراميا رائعا باسم   In America ترشح حينها لأوسكار أفضل نص أصلي بالإضافة لأفضل ممثلة وممثل مساعد حيث يحكي الفيلم قصة عائلة ايرلندية صغيرة تهاجر على أثر وفاة طفلهم ذي الخمس سنوات من كندا إلى أمريكا بشكل غير قانوني من |أجل بناء حياة جديدة لكن ذكرى طفلهم الميت لم تزل عالقة . وبالرغم من أن الفيلم لايركز كثيرا على موضوع الفقد واثره لكننا لايمكن إلا أن نلاحظ ان هذه الحادثة تطل بظلها على العائلة بطريقة ما وربما توجه تصرفاتهم واختياراتهم الجديدة .
في عام 2010 تترشح النجمة نيكول كيدمان في الاوسكار والغولدن غلوب كأفضل ممثلة بعد أدائها الرائع والمؤثر في فيلم Rabbit Hole المقتبس عن مسرحية لديفيد ليندسي حيث تؤدي نيكول دور أم كانت بحياة سعيدة مع زوجها تتحول إلى امرأة  مكلومة بوفاة ابنها المفاجيء بحادث سيارة مما يدفعها لعلاقة غامضة مع فنان شاب مضطرب كما يندفع زوجها الذي يلحظ ابتعاد زوجته عنه إلى خيارات أخرى في الحياة أيضا لم يكن ليفكر بها مسبقا .
أخيرا وفي أحد افضل أفلام السنوات الأخيرة Manchester by the Sea الفيلم المرشح لأوسكار أفضل فيلم وإخراج وممثل مساعد وممصلة مساعدة وفائز كأفضل نص أصلي وافضل ممثل لكاسي أفليك وهو يعيش فترة مابعد وفاة أخيه الذي ترك له ابنه ليعتني والم ذكريات وفاة سابقة من الماضي .
 
 

دور السينما في تعزيز التسامح

باعتبارها الفن السابع أو آخر الفنون البشرية وأحدثها، والتي لم تتجاوز حتى الآن 125، مما جعلها تزامن كل التغييرات الحديثة على مستوى الفكر والثقافة والتحولات الاجتماعية والأحداث السياسية في القرن الأخير، مما انعكس بطبيعة الحال على مضامين الفيلم السينمائي ليؤدي في النهاية إلى أن تتبنى السينما إجمالاً تلك القيم الإنسانية التي تضيف معنى مثالياً للوجود البشري، كما كانت الحال في بقية الفنون والآداب. فالسينما كما نعرف لا يمكن أن تقتصر فحسب على المفهوم الفني البحت وتجلياته، فهي غالباً ما تكون انعكاساً أميناً للفكر والتغييرات الاجتماعية والأحداث السياسية، سواء بالنقد أو بالإشادة والاحتفاء.
بدايات السينما
من أبرز هذه القيم الإنسانية قيمة التسامح، والتي جاءت ابتداء حول التسامح الديني، كما كتب حينها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في رسالته الشهيرة في التسامح في القرن السابع عشر، لكن هذا المفهوم توسع كثيراً ليشمل كل أنواع التسامح ونبذ التحيز والعنصرية والإقصاء، لتكون موضوعات من نوع بشاعة العنصرية وقبح الحروب القائمة على أساس الصراع الديني ومناصرة النسوية من الموضوعات الشائعة في الأفلام السينمائية والتي تتصاعد وتيرتها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، ولذا فحتى الأفلام الشهيرة والمؤثرة في الشكل الفني للسينما، مثل فيلم الأميركي ديفيد غريفيث مع بدايات السينما عام 1915 (مولد أمة / The Birth of a Nation) كان قد واجه حملة كبيرة من الاعتراض والامتعاض لمجرد أن يشي نوعاً ما بشيء من العنصرية تجاه السود وتصويرهم بطريقة تحيزية.
مهاجرون ولاجئون
لكن الاستقصاء العام حول السينما سيدفعنا باتجاه تأكيد دور السينما في تبني قيم التسامح بشكل متفاوت ما بين فترة وأخرى، لكنه في تصاعد ليمثل أكثر صوره تجلياً في الانتصار لهذه القيم في السنوات الأخيرة، وهو الأمر الذي يبدو متفهماً لتصاعد القيم الإنسانية فكرياً وبروز القضايا السياسية والاجتماعية الحديثة، فحتى العام الماضي مثلاً كانت مسألة المهاجرين واللاجئين موضوعاً لأفلام مخرجين عديدين، مثل الفنلندي الشهير آكي كورسماكي في فيلمه الأخير The Other Side of Hope والذي يحكي قصة مصادقة أحد مطاعم البوكر وبائع سابق في السفر مجموعة من اللاجئين الذين وصلوا حديثاً إلى فنلندا.
عنصرية متحيزة
وفي محاولة لإجراء عملية جرد سريعة لتلك الأفلام التي تبنت موضوعاتها هذه القيمة الإنسانية العظيمة سنجد أمامنا العديد من الأمثلة، ومنها تلك الأفلام الشهيرة والمعتبرة فنياً في تاريخ السينما العالمية، كما هو فيلم روبيرت موليغان To Kill a Mockingbird عام 1962 المرشح لأوسكار أفضل فيلم وإخراج والفائز بأوسكار أفضل سيناريو مقتبس، إضافة لأفضل ممثل لنجم الستينات غريغوري بيك الذي أدى دور محامٍ في جنوب أميركا فترة الكساد، وهو يدافع عن رجل أسود متهم بالاغتصاب بينما يرى هو وأولاده براءته وأن الاتهام جاء بدوافع عنصرية متحيزة.
حروب وصراعات
وحول الحرب التي تأتي نتيجة لانعدام قيمة التسامح والتعايش وفجاعة الصراعات العرقية والمناطقية سنجد مثلاً الفيلم المرشح لأوسكار أفضل نص عام 2004 Hotel Rwanda حول مدير فندق يضم أكثر من ألف لاجئ من التوتسي خلال كفاحهم ضد ميليشيات الهوتو في رواندا، حيث كان الفيلم أميناً ومؤثراً في إظهار بشاعة مثل هذه الحروب والصراعات وتخلي العالم عن إيقافها. كما أن الفيلم الأوسكاري الفائز بجائزة أوسكار أفضل فيلم وسيناريو 12Years a Slave عام 2013 يعيد الفكرة من جديد كعملية تكرارية تمارسها السينما في موضوع العنصرية من خلال العودة تاريخياً لعصر العبودية في قصة رجل أسود حر يتم اختطافه في نيويورك ثم بيعه عبداً ليلاقي الكثير من البؤس والعناء. كما هي الحال في آخر ترشيحات الأوسكار العام الماضي حيث تواجد فيلمان في ترشيح أوسكار أفضل فيلم وسيناريو هما Green Book الفائز بأوسكار أفضل فيلم وسيناريو أصلي وفيلم سبايك لي BlacKkKlansman الفائز بأوسكار أفضل سيناريو مقتبس حيث يعالجان الموضوع نفسه المتعلق بالعنصرية بطريقة مختلفة وكوميدية ساخرة أيضاً.

  • نشر في مجلة ” زهرة الخليج “

كلب أندلسي … قصة فيلم سيريالي !!

يذكر المخرج الروسي الكبير أندري تاركوفسكي في كتابه ” النحت في الزمن ” عن أحد مخرجيه المفضلين ” لويس بونويل ” أنه حينما تم عرض فيلمه ” كلب أندلسي ” لأول مرة عام 1929 كان بونويل مضطرا للاختباء عن البرجوازيين والمحافظين والحانقين , وكان يضع مسدسا في جيبه الخلفي كلما غادر منزل ” !! – فيما ذكر بونويل نفسه انه كان قد وضع في جيوبه بعض الحجارة وهو مختبيء حتى يقذف بها الجمهور فيما لو فشل الفيلم وتهجم عليه الناس !! بينما كان تاركوفسكي يذكر هذا الأمر في سياق حديثه عن الفن والسينما بعد أن قال أن ” الفن يبدو خطيرا لأنه مقلق ومشوش ” ثم أعقب ذكره لحادثة بونويل بقوله ” والذي اعتاد لتوه على السينما بوصفها ترفيها وتسلية وهبتها له الحضارة ارتعد في رعب عند رؤيته الصور والرموز التي تلفح الروح والتي يصعب حقا تحملها أو إدراك معناها “
وفيما يعتبر فيلم ” كلب أندلسي ” الفيلم الأول للمخرج الكبير والسيريالي لويس بونويل وهو في سن التاسعة والعشرين إلا أن الفيلم أيضا يكاد يكون رائد الحركة السيريالية في السينما واحتل عبر التاريخ مكانة عالية جدا وهو ضمن قائمة ” 1001 فيلم يجب أن تشاهدها قبل أن تموت ” حسب الناقد السينمائي الشهير ستيفن شنايدر . كما اختارت مجلةPremiere      الفيلم ضمن ( 100 فيلم صدمت العالم ) في عددها أكتوبر 1998 في قائمة مرتبة للأفلام ” الجريئة من أي وقت مضى ” كما وان الناقد الراحل الشهير روجر إيبرت وضع الفيلم ضمن قائمته ” أفلام عظيمة ” فيما كان من الطريف أن العالم في السبعينات شاهد الفيلم – وبالاخص جمهور موسيقى الروك – في جولات ديفيد بوي حيث كان يتم عرض الفيلم قبل كل عرض غنائي !!
وهنا يمكن ان نتسائل ماقصة هذا الفيلم الذي لايتجاوز 16 دقيقة حتى يحضى بمثل هذه الشهرة والاعتراف حيث يذكر المؤرخون ان عرض الفيلم الأول شهده مجموعة من المشاهير أمثال بابلو بيكاسو ، لو كوربوزييه ، جان كوكتو ، كريستيان بيرارد وجورج أوريك ، بالإضافة إلى مجموعة أندريه بريتون زعيم الحركة السيريالية وقتها والذي رحب ببونويل وصديقه الرسام الشهير سلفادور دالي الذي شارك بونويل كتابة الفيلم رسميا في صفوف السيرياليين !!
الحقيقة انه ليس هناك أي قصة سردية بالشكل التقليدي المعروف بل إن الفيلم عبارة عن سلسلة من المشاهد الرمزية والصادمة  والمزعجة ايضا بأسلوبها الغامض ولم يكن مصدر هذا الفيلم سوى الأحلام التي شاهدها بونويل وصديقه سلفادور دالي في منامهما حيث يذكر بونويل في مذكراته قائلا ” ( ولد هذا الفيلم من تلاقي حلمين . دعاني دالي لقضاء عدة ايام في بيته ولدى وصولي الى ” فيغويراس ” رويت له حلما كنت رايته قبل فترة قصيرة : غيمة تقطع القمر وموس حلاقة تشق عينا !! وقال لي دالي بدوره انه في الليلة الأخيرة رأى في الحلم يدا ملأى بالنمل !! وأضاف : إذا انطلقنا من هذا هل نستطيع أن نصنع فيلما ” )
والحقيقة ان كلا الحلمين تم تصويرهما في الفيلم لكن مايبدو مثيرا للانتباه هو تعبير بونويل وهو يتحدث عن الفيلم وكتابة السيناريو حينما يقول : ( كتبنا السيناريو في أقل من اسبوع متبعين قاعدة بسيطة جدا باتفاق مشترك : عدم قبول أي فكرة أو صورة يمكن ان يكون هناك أي مجال لتفسيرها بشكل عقلاني او سيكيلوجي أو ثقافي , وفتح كل الابواب على اللاعقلانية دون أن نتطلب أكثر من أن تؤثر الصور فينا ومن غير أن نعمل على معرفة السبب )
والحقيقة الأهم أن الفيلم كان قد تم استقباله بشكل رائع واثار موجة من التصفيق والاعجاب مما اغضب بونويل بعض الشيء حينما رحب الجمهور بالفيلم باعتباره شيئا جديدا دون ان تستفزهم هذه الطريقة في العرض والتي لايمكن تجاهل كونها تقدم إهانة للبرجوازية التي ظل بونويل في لاحق أفلامه واشهرها يكرر هذه الإهانة كما ظل ايضا يعتمد الأحلام والكوابيس كمصدر إلهام لكتابة افلامه .
ومن جانب  آخر وعلى عكس ماكان يخطط له بونيول وصديقه الرسام سلفادرو دالي فإن الكثير جدا من التفسيرات التحليلية والعقلانية والنظريات الفرويدية والنفسية قد طالت الفيلم وتناولته منذ عرضه عام 1929 وحتى هذا اليوم مما يجعل مشاهدته أمرا محتما كما قال ذلك من قبل ستيفن شنايدر وغيره من مؤرخي السينما ونقادها ومن حسن الحظ أن الفيلم متوفر حاليا على موقع اليوتيوب دون الحاجة للترجمة